القلق داء العصر

30/04/2025| إسلام ويب

في زمنٍ تكالبت فيه الأخبار السلبية، وتحكمت وسائل التواصل في كثير منا، وتعقّدت الحياة أكثر من أي وقت مضى، وصار التطلع إلى مظاهر الترف وزخارف الدنيا، أصبح القلق رفيق كثير من الناس.
إنه شعور لا يُرى، لكنه يحكم قبضته على الصدر، يعكّر صفو القلب، يمنع النوم أو يقلقه، ينهك الجسد، ويبعثر التفكير... فما هو هذا الزائر الثقيل؟ وهل هو محض اضطراب نفسي؟ أم أنه حالة مرتبطة بقوة أو ضعف الإيمان تستدعي علاجًا من نوعٍ آخر؟

عندما تهاجمك الأفكار
يقول "فيكتور فرانكل" –عالم النفس النمساوي ومؤسس العلاج بالمعنى–: "إن القلق ليس دائمًا مرضًا، بل قد يكون صرخة من النفس تطلب المساعدة".
والقلق في جوهره ليس مشكلة في حد ذاته، بل مؤشر. هو ذلك الإحساس غير المريح بأن شيئًا سيئًا قد يحدث، حتى وإن لم يكن هناك سبب مباشر. يبدأ كقلق بسيط أمام امتحان، مقابلة عمل، أو حتى لقاء اجتماعي، لكنه سرعان ما يتحوّل إلى قيد خانق يمنع صاحبه من الاستمتاع بالحياة.
ووفقًا لعلم النفس، فإن القلق يرتبط غالبًا بفرط التفكير، والخوف من المستقبل، ومحاولة السيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه.
وحين تستمر هذه المشاعر، تبدأ الأعراض الجسدية بالظهور: خفقان القلب، ضيق التنفس، أرق مزمن، وأحيانًا نوبات هلع.

عندما يتحدث الشرع
القلق ليس خطيئة... بل ابتلاء له دواء
والإسلام أتى بالتوازن بين الروح والجسد، وبين القلب والعقل، لابد أن تكون له كلمة في هذا الشأن، يقول الله تعالى:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}(البلد:4).
نعم، الكبد هو العناء... ومنه القلق. فالمؤمن ليس معصومًا من الشعور بالضيق أو الخوف، بل هو مَن يسعى لتجاوز ذلك بالإيمان والعمل.
قال ابن القيم رحمه الله: "القلق والهم نصف المرض، والتوكل نصف الدواء". فهل هناك أجمل من هذا التوازن؟
إن الإسلام لا ينكر وجود القلق، لكنه يوجهنا إلى كيفية التعامل معه: لا بالهروب، ولا بالإنكار، بل بالربط بين الأخذ بالأسباب، والتسليم لقدَر الله.
وقال ابن القيم رحمه الله: (إذا أصبحَ العبدُ وأمسَى وليس هَمُّه إلا الله وحده؛ تَحَمَّلَ اللهُ سبحانه حوائجَه كلَّها، وحَمَلَ عنه كلَّ ما أهمَّهُ، ‌وفرَّغَ ‌قلبَه ‌لمحبَّتِه ولسانَه لذكرِه وجوارحَه لطاعتِه.
وإن أصبح وأمسى والدُّنيا همُّهُ؛ حَمَّلهُ اللهُ همومَها وغُمومَها وأنكادَها، وَوَكَلَه إلى نفسه).

تعلق القلب بالله وحده
قال ابن القيم رحمه الله: (ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذى لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوى، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف. فذكره قوته وغذاؤه ومحبته، والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدت تلك الفاقة، فإن فى القلب فاقة لا يسدها شىء سوى الله تعالى أبدا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له، وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذى له خلق الخلق).

منهج نبوي في إدارة القلق
كان النبي صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بأمّته، وعرف عن قرب معاناة النفس البشرية. فحينما شعر الصحابة بالقلق، قدّم لهم حلولًا واقعية روحية ونفسية.
في أحد الأدعية التي كان يوصي بها:
"اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، وأعوذ بك من العجز والكَسَل، وأعوذ بك من الجُبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"رواه البخاري.
لاحظ كيف جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين أمراض النفس (الهم، الحزن) والضغوط المالية والاجتماعية، وكأنّه يرسم خريطة شاملة لعلاج القلق.
كما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب عبدًا همّ ولا حزن، فقال اللهم إني عبدُك ، وابنُ عبدِك وابنُ أمتِك ، ناصيتي بيدِك ، ماضٍ فيّ حكمُك ، عدلٌ فيّ قضاؤُك ، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك ، سميتَ به نفسَك ، أو أنزلتَه في كتابِك أو علمته أحدًا من خلقِك ، أو استأثرت به في علمِ الغيبِ عندك أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ، ونورَ صدري ، وجلاءَ حزني ، وذهابَ همي وغمي إلا أذهب الله همّه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا"رواه أحمد.
هل هناك دعم نفسي أعظم من هذا؟!
ماذا يقول الأطباء؟
يؤكد الطب النفسي اليوم أن القلق قابل للعلاج بفعالية عالية. لكنّ التحدي الأكبر يكمن في الوصمة الاجتماعية، والخوف من الاعتراف بالمعاناة.
العلاج قد يكون دوائيًا في الحالات الحادة، لكن الأهم هو العلاج المعرفي السلوكي، الذي يُدرّب الإنسان على مواجهة أفكاره، لا الهروب منها.
واللافت أن هذا العلاج يرتكز على فكرة: "إعادة هيكلة التفكير السلبي"... وهي ذاتها التي يوصي بها الإسلام حين يعلّمنا أن نجعل الرضا بدلا من التشاؤم، والتوكل بدلا من القلق، والصبر بدلا من الضيق.
لقد أثبتت الدراسات الحديثة أن العلاج باليقين يعطي نتائج قوية في حالات القلق، خاصة حين يتم دمج الذكر، والدعاء، والصلاة، ضمن خطة التعافي.

 كيف تهزم القلق؟
1. عُد إلى الله: ليس مجرد كلام عابر... بل عودة حقيقية، إلى الطمأنينة التي تنبع من الثقة به، واليقين بأنه لن يُضيّع عبدًا لجأ إليه.
2. تحدث عن مخاوفك: لا تخجل من قول: "أنا قلق". الحديث هو أول خطوات التحرر.
3. ابحث عن المعنى: القلق غالبًا هو غياب الهدف. حين تعرف لماذا تعيش، تهدأ مشاعرك.
4. لا تتردد في طلب المساعدة: سواء من طبيب أو مختص أو شيخ موثوق، المهم ألا تبقى وحيدًا في المعركة.
5. كن راضيا صابرا متعلقا بالله راجيا فرجه عند الشدائد، واعلم أن مع العسر يسرا.

بين الطب والدين... نولد من جديد
القلق ليس عدوًا دائمًا... أحيانًا هو جرس إنذار نحتاج إليه. لكنه يصبح مؤذيًا إذا تجاهلناه.
فلنستمع إليه... ثم نواجهه.
بالصلاة لا بالهروب، بالاستشارة لا بالإنكار، وبالإيمان لا بالخوف.
ولك أن تتخيّل: كيف سيكون حالك لو جمعت بين العلم والإيمان؟ بين العلاج واليقين؟
هناك... تبدأ الحياة من جديد

 

www.islamweb.net