الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قسوة إخوتي وزوجتي أثرت على حياتي، ما سبيل التخلص منها؟

السؤال

السلام عليكم

أنا أكبر إخوتي، وقد شارفتُ على الأربعين، لديّ أخ وأخت، وكنت قد اختلفتُ معهما بسبب سوء التعامل، وعدم الاحترام، أخي كان معروفًا بسوء الخُلُق معي على مرّ السنين، أما أختي فلا.

دائماً كنت أتنازل عن حقي تحت ضغط والدي، وتزوجتُ قبل سنوات، ثم طلبت زوجتي الطلاق، وكنت وحيدًا لمدة خمس سنوات في الغربة، مما أثّر على نفسيتي بشكل كبير.

عندما عدت، حاولت جاهدًا أن أتغاضى عن عصبية إخوتي وسوء تعاملهم معي لأشهر، بالرغم من هدوئي في التعامل معهم، لكن في النهاية، تصادمت معهم بشدة بسبب رفع صوتهم عليّ، وعدم احترامي، وقد وصل الأمر بأخي إلى أن مدّ يده عليّ، ودفعني، فقمت بالرّد عليه بدفعه، وتشابكنا بالأيدي، لولا تدخل والدي.

خلال السنوات الخمس الماضية، عانيتُ من زوجة ناشز، ومن أبيها، وتعامل مهين من طرفها، رغم جميع التنازلات التي قدمتُها، حتى طلبت الطلاق بإيعازٍ من أبيها، إلى جانب ذلك، واجهت تحديات الدراسة الجامعية، ومشرفًا دراسيًّا ظالمًا، والغربة، بالإضافة إلى وباء كوفيد الذي كان سببًا في وحدتي وانعزالي لسنوات.

كنت بطبعي إنسانًا متسامحًا، لكن هذه الخصلة سببت لي الكثير من المشاكل، إذ أصبح الناس يستهينون بالإساءة إليّ، أو هضم حقي، أو رفع بلاغات كاذبة ضدي للشرطة، كما حصل مع طليقتي، وصديقٍ آخر في أيام الدراسة، لكن -والحمد لله- تمت تبرئتي.

لم أعد أتحمل أيًّا من مظاهر الظلم أو عدم الاحترام، ولا أسامح أحدًا إلا إن اعتذر عما بدر منه، حتى صلاتي تأثرت؛ فقد أصبحتُ لا أدري كم ركعة صليت أحيانًا، وأغضب من أمور حدثت معي في الماضي، ويضيق بها صدري حين أكون وحيدًا، وقد استشرتُ طبيبًا نفسيًّا، فوصف لي دواءً عند الحاجة.

في الوقت الحالي، لا أتكلم مع إخوتي إطلاقًا، وأشعر بالهدوء، لقد قاطعتهم حفاظًا على ما تبقّى من سلامة عقلي ونفسيتي، فهل عليّ إثم في ذلك؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أبو آدم حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

بناءً على ما ذكرت من أحداث وتجارب صعبة مرت عليك، يبدو أنك تعرضت للكثير من الضغوطات النفسية، والأحداث المؤلمة التي أثرت على صحتك النفسية وعلاقتك بإخوتك.

من الناحية النفسية: ما تمر به من مشاعر قد يرتبط بحالة نفسية تتضمن القلق والاكتئاب، بسبب تراكم الضغوط والاعتداءات النفسية، حيث يمكن أن تتسبب الأحداث المؤلمة المتكررة في تأثيرات طويلة الأمد على الصحة النفسية، بما في ذلك الغضب المستمر، وتكرار ذكريات الأحداث السلبية، والصعوبة في الحفاظ على التركيز أثناء الصلاة، وغيرها من الأنشطة اليومية، ومن الضروري التعامل مع مثل هذه الحالات بمساعدة مختص نفسي، كما فعلت مع الطبيب النفسي، خصوصًا إذا كانت هذه المشاعر تؤثر بشكل كبير على حياتك اليومية، العلاج النفسي السلوكي، أو العلاج الدوائي الموصوف من قِبل الطبيب، قد يكون له دور كبير في مساعدتك على تخطي هذه المرحلة.

أما من الناحية الشرعية: فيما يتعلق بمقاطعتك لإخوتك، فصلة الرحم من أهم الواجبات في الإسلام، ولها شأن عظيم عند الله، لكن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، كما قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، فإذا كانت العلاقة مع إخوتك تسبب لك أذىً نفسيًا كبيرًا، فإن الشرع لا يجبرك على تحمل الأذى المستمر، ومع ذلك، يُنصح دائمًا بالمحاولة قدر الإمكان للحفاظ على العلاقات الأسرية، ولو بأقل القليل، كإرسال رسالة قصيرة، أو السلام في المناسبات العامة، ما دام ذلك لا يتسبب في أذى جديد.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" [رواه البخاري]، فإذا وجدت من نفسك القدرة على بعض التواصل البسيط دون أن يتسبب ذلك في أذى نفسي لك، فقد يكون ذلك حلاً وسطًا يجمع بين حفظ حقك في سلامتك النفسية، والحفاظ على صلة الرحم بقدر المستطاع، وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ لي قَرابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إليهِم وَيُسِيؤُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عنْهمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقالَ: لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ وَلا يَزالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ على ذلكَ) فعليك بالالتجاء إلى الله بالدعاء ليريح قلبك، ويسهل عليك الأمور، وطلب الهداية والتوفيق في قراراتك.

أيضًا حاول أن تتعلم تقنيات التحكم في الغضب، والحد من تأثيره على حياتك، وهذه من أهم المهارات التي ينبغي أن تحرص عليها باستمرار؛ كي تعيش بشكل صحي، ولا يؤثر الضغط النفسي على حياتك الصحية ووظائفك المهنية، وإذا تأملت في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ستجد أنه كان يفصل بين الحق الشخصي والحق العام، والذي هو حق لله تعالى، فكان يتنازل عن الحق الشخصي ولا يغضب لنفسه، وهناك مواقف كثيرة يمكنك الرجوع إليها والبحث عنها.

أخرج بعض أصحاب السنن عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، كنّا نَقعُدُ مع رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في المسجدِ، حتى إذا قام قُمْنا، فقام يومًا وقُمْنا معه، حتى لمّا بَلَغَ وسَطَ المسجِدِ أدرَكَه الأعْرابيُّ، فجَبَذَ برِدائِه مِن وَرائِه، وكان رِداؤه خَشِنًا، فحَمَّرَ رَقبتَه، فقال: يا محمَّدُ، احمِلِ لي على بَعيرَيَّ هذين، فإنَّكَ لا تَحمِلُ لي مِن مالِكَ ولا مِن مالِ أبيكَ! فقال رسولُ اللهِ: لا أحمِلُ لك حتى تُقيدَني ممّا جَبَذتَ برَقبتي، فقال الأعْرابيُّ: واللهِ لا أُقيدُكَ، فقال له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاثَ مَرّاتٍ، كلُّ ذلك يقولُ: واللهِ لا أُقيدُكَ، فلمّا سَمِعْنا قَولَ الأعْرابيِّ، أقبَلْنا إليه سِراعًا، فالتفَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: عَزَمتُ على مَن سَمِعَ كَلامي ألّا يَبرَحَ مَقامَه حتى آذَنَ له، فقال رسولُ اللهِ لرَجُلٍ مِن القَومِ: احمِلْ له على بَعيرٍ شَعيرًا، وعلى بَعيرٍ تَمرًا، ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: انصرِفوا". انتهى.

بينما سنجد في مواقف أخرى تتعلق بالحق العام، أو حق الله تعالى، كتطبيق الحدود الشرعية، لم يتنازل فيها، كحد المرأة المخزومية التي سرقت، عندما حاول أن يشفع فيها الصحابي الجليل أسامة بن زيد، فإذا تعلمت هذه المهارة، مهارة الفصل بين الحق الشخصي والحق العام، ستكتشف أنها أداة مهمة وفعالة جدًا.

نسأل الله أن ييسر أمرك، وأن يهديك وأهلك إلى سواء السبيل.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً